الدراجة الهوائية بقلم زياد آل الشيخ

مقال شاعري رائع بقلم د. زياد آل الشيخ  في جريدة الرياض بعنوان الدراجة هوائية

    الدراجة الهوائية بنت الحقل. وهي وحدها من تخصر القرى والمدينة بحزمة قمح لا تُرى. عجلاتها مراوح تدور في رئة المدينة المتعبة بالكربون وقلة الضباب. رشيقة مثل غزال معدني يلاعب ظله في غابة من الأسمنت المسلح. تسير على حبل مشدود بين الحقيقة والمجاز، نحيلة كسكين تشق حرير النسيم الذي يجره الغيم على صخور الرابية. تمر بين البيوت كغيمة رصاصية في حلم واقعي أبيض، فتخيط جرح البيئة المفتوح، وتزيد من نسبة الأكسجين في دم المدن الصناعية. لذلك تحملها القرى على ظهرها لتصعد سلم المدنية الطويل. خفيفة الظل على الرصيف المطرز بالعشب الذي يقاوم سلطة البلدية في حربها على العشوائية. لذلك يسند طفل دراجته بزاوية مائلة على جدار دهن حديثاً ويجري إلى البقالة دون أن يلتفت إلى الدراجة وهي تغير شكل المكان. وقد يمر مصور أجنبي فيطلب من سائق التاكسي أن ينزله فجأة: قف هنا، ها قد وجدت نفسي مرة أخرى. تتحرك الذاكرة كشريط سينمائي مشدود بين عجلتين صغيرتين تديرها ساقان نحيلتان لطفل لم ينتبه أن رجلاً بنظارته السميكة ينظر إليه سارحاً وقد تدلت من رقبته آلة تصوير كبيرة واغرورقت عيناه بالدموع. ففي قلب كل رجل في الخمسين دراجة بيضاء يحوم بها كنحلة حول حديقة قلبه الدائرية كلما مر بمشكلة لم يستطع حلها، كأن يمد يده في كيس أمسه فيجده خاليا. فالدراجة صندوق ذاكرة متحرك مفتوح على طرق ترابية تؤدي إلى الحنين. وهي فراشة الحداثة، ترفرف بالعجلات على وردة التكنولوجيا. تقشر الحضارة كبرتقالة تتساقط منها قشرة الكربون على مائدة التاريخ. فالدراجة سبط طاحونة الهواء، وهي خدن الفيزياء النظرية. فكيف لسرب من الدراجات الهوائية أن يعيد إلى المدينة الكبيرة إيقاع القرية الصغيرة؟ فربما ركب السياسي دراجة في صباح يوم ما من عطلة نهاية الأسبوع ليستعيد توازنه، فلا يميل إلى اليمين ولا يميل إلى اليسار، ولا يتقدم أكثر كي لا يكذبه من تأخر، ولا يتقهقر أكثر كي لا يكذب هو من تقدم. وربما أجاب عن السؤال المبرح: كيف أدحرج ثمر الفلسفة على سيف التجربة الواقعية دون أن تشطره نصفين؟ وربما في مكان ما في الريف، سيمضي بالدراجة شاب مغامر إلى المنحدر في يوم شديد الحرارة ليطلق يديه مستسلماً للجاذبية وهي تركل الدراجة إلى أن تقع به في الغدير. سيخرج من الماء وهو يضحك: حياتي دراجة هوائية في منحدر العاطفة. سيسند دراجته إلى طاحونة هوائية زرقاء ويأخذ قيلولة تحت شجرة تفاح نائية. سيمر المصور الأجنبي نفسه بالدراجة عند الطاحونة الهوائية ويقول لسائق التاكسي: قف هنا، ها قد وجدت نفسي مرة أخرى.

وصلة للمقال جريدة الرياض : الدراجة هوائية.

 

About the author

مؤسس موقع الجاريات محاضر نظم معلومات في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

Related Posts