فقه العلامة المحدث، وما أدراك ما فقه الشيخ محمد بن ناصرالدين الألباني؟
يقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: لمّا اشتريتُ قطعة أرض خارج التّنظيم، لأنّها رخيصة في الثّمن، وبالفعل قمت بتأسيس المنزل، وأسّست به دكاناً، ولمّا كان الأمر كذلك، بَعُدَت المسافة من منزلي إلى المكتبة الظاهرية التي كنتُ أتردّد عليها، فكنتُ أعمل ساعة أو ساعتيْن في دكاني قبل أن تفتح المكتبة أبوابها.
اشتريْت دراجة لأركبها، وكان لأوّل مرّة الدّمشقيُون يَرَوْنَ مثْل هذا المشهد أنّ شيخاً معمّماً يركب درّاجة، فلذلك تعجّبوا من ذلك المشهد، وكان هناك مجلّة تُسمى: (المُضحك المبْكي)، يصدرها رجل نصراني، فذكر هذا المشهد ضمْن النّكت الظراف، وكنتُ لا أبالي بهذه الأمور الصغيرة، فكل الذي يهمني هو: ((الوقت)).
من كتاب (صفحات بيضاء من حياة الإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى)
ماذا يستفاد من هذه الرواية؟ هل تستطيع استخراج الدروس؟
العلامة ترك لنا أثرا وقصة، وما كان يذكرها إلا والفائدة في أحشائها. بل إن هذه القصة تكاد تكون فيصلا في أمور ونقاشات فكرية كثيرة، يتحاور فيها الصغير والكبير، والقاصي والداني، ومغردون كثر في التواصل الاجتماعي، وهذه نبذة من الدروس، خذوها واحفظوها فتردوا بها على من يحاول العبث بكم!
1- الدراجة للكبار قبل الصغار
الصغار يركبون الدراجة، الكبار يركبون الدراجة، وحنى الشيوخ والعلماء والعلّامات! وأنت ما زلت مستبعدا الموضوع وكأنك منزه عن فعل هذه الأمور! والله نتعلم من هذا العلامة الفقه والحديث وحتى ركوب الدراجة!
2- سأذهب إلى العمل، إلى المكتبة!
الشيخ الألباني يصرف ماله ليشتري دراجة! فهل كان لهذا العالم، وحاشاه رحمه الله، أن يصرف ماله في لعب وإسراف؟ بل لم يستخدم الشيخ الألباني الدراجة للرياضة فقط كما يستخدمها الكثير من الدراجين مع أنها مفيدة، بل استخدمها للتنقل بين عمله والمكتبة، ولاحظ معي أخي القارئ، أنه يتنقل بين أهم الأماكن للإنسان الحكيم، بين العلم والعمل. فهل ستركب الدراجة فقط للرياضة، أم أنك ستركبها للذهاب للعمل ولطلب العلم والمسجد؟ اقرأ ما قاله الشيخ، ثم انظر كيف يصرف البعض نظره عن هذا الموضوع! هل ستذهب غدا إلى الجامعة بدراجتك؟
3- اضحك إلى بكرة، لا يهمني!
هل تسخر من راكب الدراجة والشيخ الألباني يركبها؟ بغض النظر عن الجواب، اعلم أن السخرية ليست المشكلة، المشكلة إذا كنت لا تتحملها. بالنسبة للشيخ فهذه الأمور توافه بالنسبة له، بالرغم أن من سخر منه واستغرب نشرها في كتاب! الألباني كعالم ومحدث وصاحب هدي من السنة، كان يتخلق بأخلاق المسلم الذي لا يبالي بالسخرية، بل يتمسك بالحق ويفعل الصواب دون اكتراث لأن الحكمة ضالة المؤمن.
4- فقه الشيخ الألباني وخوارم المروءة
الكثير من المتحمسين لركوب الدراجات الهوائية في البلاد العربية يخافون من خرم مروءتهم، ولكنهم للأسف اعتقدوا أن ركوبهم للدراجات خرم للمروءة. ولكن الشيخ الألباني لم يعتبرها ذلك، بل حتى لم يذكرها في سياقه. ولو قلت أن ركوب الدراجة لا تعتبر من خوارم المروءة في دمشق، فإن الدمشقيون استغربوا هذا الفعل بل وسخر منه آخرون! وربما استنكروه على الشيخ، ولكنه في النهاية ركبها، وبعمامته أيضا، محافظا على مروءته بلبس عمامة، كما يعرف الفقهاء أن تغطية الرأس من المروءة.
5- الرد المفحم بكلمة واحدة
لم يبالي الشيخ بكثير مما سبق، ولم يجب عن تساؤلات المتعجبين، ولم يكترث بمن سخروا منه، ولكنه أعطى ردا واحدا بكلمة واحدة يفهمها من فقه الدين وعرف معنى المروءة، وكأنه يصفع بها كل ردود الفعل والاستنكار! يقول: أن كل الذي يهمه هو (الوقت). وكأنه يقول إذا تعارض أي شيء مع (الوقت) فهو تبرير كافٍ وجائز ومن الحكمة والفقه! خير الكلام ما قل ودل، رحمك الله يا شيخنا. إذا سألك أحد لماذا تركب الدراجة، فتكفيك هذه الكلمة!
6- الدراجة ولبس الثوب!
بسط الأمور، الشيخ العلامة محمد بن ناصرالدين الألباني كان يركب دراجته بلباسه المعتاد، ولم يحتاج إلى لباس معين! هل من العيب أن تركب الدراجة بثوبك؟ وماذا تقول في شيخ علامة مثل الألباني وهو يركبها معمما، وكأنه يخبرك بكيفية الركوب على وسيلة تنقله الرائعة والمفيدة! لا تكبر الموضوع، الدراجة لا تحتاج إلى لبس معين، ولا إلى وسائل سلامة مبالغة فيها. إذا كنت ستلبس لبسا معينا فهنيئا لك، لكن لا تضيق واسعا، ولو سخرت من رجل يسوق بثوبه، فاعلم أنك تسخر على محدثنا! البس خوذة أو لا تلبس الخوذة، فهذا خيارك أيضا، والشيخ لم يلبس خوذة! الدراجة آمنة وسهلة حتى بالعمة، ودلالة على تواضع صاحبها وعصاميته.
تعلمنا يا شيخ
تعلمنا يا شيخنا أن الدراجة للعلماء، تعلمنا أنها وسيلة تنقل، تعلمنا أن لا نهتم للساخرين، تعلمنا أنها لا تخدش المروءة، تعلمنا كيف نرد على المشككين، تعلمنا البساطة والتواضع وعدم التكلف! اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا. فجزاك الله عنا كل الخير.
لا إكراه في الدين
هل تستغرب من راكب الدراجة مثل استغراب أهل دمشق؟ أو ستسخر من راكب الدراجة كما سخر صاحب كتاب (المضحك المبكي)، أم ستقلد علماءك وتركب الدراجة؟ لك الخيار. أما بالنسبة لشيخنا، فلم يكترث من استغراب وعجب الناس، ولم يلق للساخرين بالا، لأن الوقت، كان بالنسبة له، هو الأمر المهم الذي يريد أن يحافظ عليه. الدراجة الهوائية ليست للصغار أو “لأبناء الشوارع” كما يرمي البعض، هي أكبر من ذلك ومقامها مع من رفعهم الله بعلمهم.
الأمر إليك أخي… هل تخشى السخرية من الأهل والأقارب والأصحاب والمجتمع؟ فربما كنت مسلما، لكنك بعيد عن هدي المسلم الذي يبحث عن الحق. هل تعتقد أن الوقت بالنسبة إليك ذو قيمة؟ أم أنك لا تحب ضياع الوقت في الزحام؟ ركوب الدراجة الهوائية هي سمة العلماء والأتقياء الأحرار وأهل الزهد والعلم والتقى، فحريا بنا أن تقتدي بعلمائنا.
قد تبين الرشد من الغي
رحم الله محدثنا الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح الألباني رحمة واسعة وألحقنا به في عليين!
شكر وتقدير لطالب العلم إبراهيم الحكمي الذي أوصلني إلى هذه المعلومة الجميلة.
المصدر “كتاب الإمام الألباني دروس ومواعظ وعبر” صفحة 111
جزاك الله خيرا